فصل: فصل في الكلام على المسجد الحرام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في الكلام على الآية:

في الآية قَوْلاَنِ:
القولُ الأولُ: وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من بيتِ المقْدِس إلى الكَعْبة، وذكروا في ذلك وجوهًا:
أحدها: أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى.
قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ولّى يتعدى لاثنين:
أحدهما: {وجهك}.
والثاني: {شطر}.
ويجوز أن ينتصب {شَطْرَ} على الظرف المكاني، فيتعدى الفعل لواحد، وهو قول النحاس، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والأول: أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما بإلى.
والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط، والوجه قد يُراد به العضو، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.
قال أهل اللغة: الشطر اسم مشترك يقع على معنيين.
أحدهما: النصف من الشيء والجزء منه، يقال: شطرت الشيء، أي: جعلته نصفين، ويقال في المَثَل: اجلب جلبًا لك شطره، أي: نصفه.
ومنه الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ».
وتكون من الأضداد.
ويقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض، ويكون بمعنى الجهة والنحو، واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في هذا لأربعة أبيات قال: الوافر:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا ** وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو

وقال: الوافر:
أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي ** صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ

وقال: البسيط:
وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ** هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا

وقال ابْنُ أَحْمَر: البسيط:
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ ** قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا

وقال: المتقارب:
وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو ** كِ

وقال: البسيط:
إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا ** وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

كل ذلك بمعنى: نحو وتلقاء فعلى هذا المراد الجهة، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختار الشافعي رضي الله عنه أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه.
وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
قال القرطبي: وهو في حرف ابن مسعود: تِلْقَاء المسجد الحرام، وقال الجبائي: المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد، ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} يعني: النصف من كل جهة، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة، وهذا اختيار القاضي، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهًا إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهًا إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته.
الثاني: لو فسرنا الشرط بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنك لو قلت: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} لحصلت الفائدة المطلوبة.
وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة.
ويقال: شَطر: بعد، ومنه: الشّاطر، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله، ويقال: شَطَر شُطُورًا.
والشَّطِيرُ: البعيد، ومنه: منزل شَطِيرٌ، وشطر إليه أي: أقبل.
وقال الراغب: وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد، وجمعه: شُطُرٌ، والشاطر أيضًا لمن يتباعد من الحق، وجمعه شُطَّارٌ.

.فصل في الكلام على المسجد الحرام:

قال الأزرقي: ذرع المسجد الحرام مقصرًا مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي: مائة وثلاث أُسْطُوَانات.
ومن شقّه الغربي: مائة وخمس أُسْطُوانات، ومن شقّه الشّامي: مائة وخمس وثلاثون أسطوانة، ومن شقّه اليمنى: مائة وإحدى وأربعون أسطوانة.
وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعًا.
وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون بابًا، وعدد شُرُفاته مائتا شرفه واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة، ويطلب المسجد الحرام، وَيُرَاد به الكعبة.
قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.
ويطلب ويراد به المسجد معها.
وقال عليه الصلاة والسلام: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ» إلى آخره، ويطلق ويراد به مَكّة كلها، وقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] قال المفسرون: كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب.
ويطلق ويراد به مكة كلها، قال سبحانه وتعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196].
قال البعض: حاضروا المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر.
وقال تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، هل تعتبر هذه المسافة من نفس مكة أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم.
وقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} هنا وجهان:
أظهرهما: أنها شرطية، وشرط كونها كذلك زيادة ما بعدها خلافًا للقراء ف {كنتم} في محلّ جزم بها، و{فولُّوا} جوابها، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب {كنتم} فتكون هي عاملة فيه الجزم، وهو عامل فيها النصب نحو: {أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
واعلم أن حَيْثُ من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها، ولكن منع من ذلك مانع، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال.
قال أبو حيان: وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية للخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة، فينافي اسم الشرط؛ لأن اسم الشرط مبهم، فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها، وصارت من عوامل الأفعال.
والثاني: أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط، والناصب له قوله: {فولّوا} قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها ما وجب تضمّنها معنى الشرط.
وأصل ولّوا: وليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير، فوزنه فعوا.
وقوله: {شَطْرَهُ} فيه القولان، وهما: إما المفعول به، وإما الظرفية كما تقدم.
قوله تعالى: {أَنَّهُ الحَقُّ} يحتمل أن تكون أن واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ليعلمون عند الجمهور، ومسدّ أحدهما عند الأخفش، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان، وفي الضمير ثلاثة أقوال:
أحدها: يعود على التولّي المدلول عليه بقوله: {فولّوا}.
والثاني: على الشطر.
والثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يعلمون أن الرسول مع شرعه وبنوّته حقّ ويكون على هذا التفاتًا من خطابه بقوله: {فلنولِّينَّك} إلى الغيبة.
قوله تعالى: {من ربهم} متعلق بمحذوف على أنه حال من الحق، أي كائنًا من ربهم.
قوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تعملون} بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو لللذين على الالتفات تحريكًا لهم وتنشيطًا، والباقون بالغيبة ردًّا على الذين أوتوا الكتاب، أو ردًّا على المؤمنين، ويكون التفاتًا من خطابهم بقوله: {وجوهكم} {كنتم} فإن جعلناه خطابًا للمسلمين، فهو وعد لهم، وبشارة أي: لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين، فلا أخل بثوابكم.
وإن جعلناه كلامًا مع اليهود، فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضًا أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم، وإن لم يعجلها لهم، كقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42]. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (145):

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أطمع أول الآية في أهل الكتاب وقطع عنهم آخرها صرح بما لوّح إليه هذا الأخير وأعلمه صلى الله عليه وسلم بعاقبة أمرهم وأنه لا اتفاق بينه وبينهم أصلًا ولا اتفاق بين فريقيهم مع كون الكل من بني إسرائيل ليريحه صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم فقال تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا} بناه للمجهول تنبيهًا على هوانهم {الكتاب} أي من اليهود والنصارى {بكل آية} أي من الآيات المسموعة مرغبة ومرهبة ومن الآيات المرئية مغرّبة ومقربة {ما تبعوا قبلتك} أي هذه التي حولت إليها وكنت الحقيق بها لكونها قيامًا للناس كما أنت رسول إلى جميع الناس، لأن إعراضهم ليس عن شبهة إذا زالت زال بل عن عناد.
ثم أومأ إلى أنهم ينصبون له الحبائل ليعود ولو ساعة من نهار إلى قبلتهم ليقدحوا بذلك فيه فقال: {وما أنت بتابع قبلتهم} ثم أشار إلى عيبهم باختلافهم وتفرقهم مع نهيهم عنه فقال: {وما بعضهم} أي أهل الكتاب {بتابع قبلة بعض} مع تقاربهم في النسب، وذلك حثًا للعرب على الثبات على مباعدتهم والحذر من مخادعتهم.
ولما كان دينهم قد نسخ أعلم سبحانه بأن ثباتهم على قبلتهم مع ذلك مجرد هوى فقال منفرًا للأمة عنهم ومحذرًا لهم منهم بخطاب الرأس ليكون ذلك أدعى لقبول الاتباع {ولئن اتبعت أهواءهم}.
ولما كان هذا السياق لأمر القبلة فقط قال: {من بعد ما جاءك من العلم} قال الحرالي: فأبهمه ولم يكن نحو الأول الذي قال فيه {بعد الذي} لظهور ما ذكر في الأول وخفاء ما وقعت إليه الإشارة في هذا وجاءت فيه {من} التي هي لابتداء من أولية لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب، قال الحرالي: قال تعالى: {إنك إذًا لمن الظالمين} على حد ما ذكر من أنه من لمح لمحًا من وصف كان من الموصوف به بألطف لطف ووصف كل رتبة بحسبها، فما يرفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم من باب إظهار رغبته وحرصه على هداية الخلق الذي جبل على الرحمة فيه وطلب المسامحة في التقاصر عنه نظرًا منه إلى حق الله تعالى ومضمون وصية الله تعالى له حين أوصاه بغير ترجمان ولا واسطة أن يصفح عمن ظلمه ويصل من قطعه، فكان صلى الله عليه وسلم يطلب وصل المنقطع عنه حتى يعلن عليه بالإكراه في ترك ذلك وودعه فيجيبه حكمًا وإن كان معه علمًا، ومنه قوله: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
ففي طيّ كل خطاب له يظهر الله عز وجل فيه إكراهه على أخذ حكم الحق وإمضاء العدل أعظم مدحة له والتزام لوصيته إياه، فهو ممدوح بما هو مخاطب بخطاب الإكراه على إمضاء العدل والاختصار في أمر رحمته للعالمين، فرفعه الله أن يكون ممن يضع رحمة في موضع استحقاق وضع النقمة، فذلك الذي بجمع معناه بين متقابل الظالمين فيمن يضع النقمة موضع الرحمة فيكون أدنى الظلم، أو من يضع الرحمة في موضع النقمة فيكون منه بتغيير الوضع بوضع الفضل موضع العدل؛ وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن من نحو قوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} أي في إمضاء العدل {فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94] في طلب الفضل لأهل العدل فإن الله يمضي عدله كما يفيض فضله، وكذلك قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1- 2] فيه إظهار لمدحته بحرصه على تألف الأبعدين ووصل القاطعين حتى ينصرف عنهم بالحكم وإشادة الإكراه عليه في ذلك، فلا ينصرف عن حكم الوصية إلى حكم الكتاب بالحق إلا عن إشادة بإكراهه عليه، فهو محمود بما هو منهي عنه، لأن خطابه أبدًا في ذلك في القرآن فيما بين الفضل والعدل، وخطاب سائر الخلق جار فيما بين العدل والجور، فبين الخطابين ما بين درج العلو، ودرك السفل في مقتضى الخطابين المتشابهين في القول المتباينين في العلم. انتهى.
وسيأتي في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] في سورة التوبة ما يوضحه. اهـ.